موسيقى "الرسالة".. ملحمة أوركسترالية جسّدت البدايات الأولى للإسلام
موسيقى "الرسالة".. ملحمة أوركسترالية جسّدت البدايات الأولى للإسلام
دار سُبْحةدار سُبْحة
00:00
02:40

تُعتبر الموسيقى التصويرية لفيلم "الرسالة" (1976) بنسختيه العربية والإنجليزية واحدة من أبرز التجارب الفنية التي نجحت في المزج بين الروحانية والملحمية في تاريخ السينما العالمية. هذا الإنجاز ارتبط باسم الموسيقار الفرنسي الشهير موريس جار، الذي استطاع عبر قدراته الفريدة أن يترجم رؤية المخرج السوري العالمي مصطفى العقاد، ويضع لها إطارًا موسيقيًا خالدًا ظل حاضرًا في ذاكرة الأجيال لعقود طويلة. لقد جاء فيلم "الرسالة"، بما يحمله من مضمون ديني وتاريخي يتناول البدايات الأولى للإسلام، مشروعًا سينمائيًا بالغ الحساسية؛ إذ يتطلب مقاربة تحترم خصوصية الموضوع وفي الوقت نفسه تعتمد عناصر سينمائية جاذبة لجمهور عالمي. هنا كان دور الموسيقى محوريًا: فهي لم تكن مجرد مرافقة للأحداث، بل لغة قائمة بذاتها تحمل معاني القداسة والعظمة والإنسانية.  

اعتمد موريس جار في صياغته للعمل على دمج آلات شرقية وإيقاعات عربية مع البناء الأوركسترالي الغربي، فخلق فضاءً صوتيًا يتجاوز الحدود الجغرافية. وبينما تعكس بعض المقاطع الطابع الروحاني الهادئ المملوء بالتأمل، جاءت أخرى مشبعة بالإيقاعات القوية التي تنقل صخب المعارك أو لحظات التوتر المصيرية في مسيرة الدعوة الإسلامية. هذه التعددية أظهرت القدرة الفائقة لجار على الدخول إلى عمق النص السينمائي لإعادة تقديمه موسيقيًا من زاوية موازية ومتكاملة في آن واحد.  

على امتداد الفيلم تتوزع الألحان على اثني عشر مقطعًا أساسيًا تحمل عناوين دالة مثل "الرسالة"، "الهجرة"، "بناء أول مسجد"، "حضور النبي"، "المعركة"، "انتشار الإسلام" وصولًا إلى "إيمان الإسلام". كل لحن منها يعكس حالة وجدانية مخصوصة ويواكب انتقالة سردية من محطات السيرة النبوية، وكأن الموسيقى تحوّلت إلى راوٍ ثانٍ يكمل ما لم تستطع الكاميرا وحدها التعبير عنه. وفي مقطوعة "الهجرة" مثلًا تتجلى مشاعر الرحيل والانفصال عن الأرض الأولى، بينما تحمل مقطوعة "المعركة" في إيقاعها الحماسي صورة السجال التاريخي بين الحق والباطل. وفي "تحطيم الأصنام" يبرز البعد الرمزي لانتصار التوحيد على الوثنية، لتختتم الموسيقى بمقطوعة "إيمان الإسلام" التي تجمع بين الهدوء والسلام وكأنها تعلن اكتمال الرسالة.  

أهمية موسيقى "الرسالة" تتعدى البعد الفني إلى بعدها الثقافي والحضاري. فقد شكّلت هذه التجربة نادرة المثال في السينما العربية والإسلامية، إذ جمعت بين رؤية مخرج عربي طموح وخبرة موسيقار عالمي بارز، ليقدما عملاً يتحدث بلغة الفن العالمي دون أن يتنازل عن جوهره الروحاني الأصيل. لقد ساهمت هذه الموسيقى في أن يتحول الفيلم نفسه إلى جسر للتواصل بين الشرق والغرب، بين الجمهور المسلم المتعطش لتمثيل بصري راقٍ لتاريخه، والجمهور الغربي الباحث عن فهم مختلف للجذور الإسلامية بعيدًا عن الصور النمطية.  

ورغم مرور ما يقرب من نصف قرن على إطلاق الفيلم، ما زالت الموسيقى التصويرية لموريس جار مرتبطة في الوجدان الجمعي بكل ما يحيل إلى البدايات النبوية الأولى وروح الإسلام. تُستخدم بعض مقاطعها حتى اليوم في سياقات إعلامية ودينية لتأكيد قدسية اللحظة وأصالتها. وهو ما يجعلها واحدة من أيقونات الموسيقى السينمائية التي تجاوزت الإطار الفني لتصبح جزءًا من الذاكرة الثقافية والروحية لملايين المشاهدين حول العالم.