في أمسية فنية أقيمت في السادس عشر من كانون الأول من عام 2015 على مدرج بيار أبي خاطر في الجامعة اليسوعية ببيروت، اجتمع ثلاثة فنون في لوحة واحدة: الشعر بصوت مهدي منصور، الغناء الروحاني الذي أداه الشيخ أحمد حويلي، والموسيقى التجريبية التي صاغها زياد سحاب. النتيجة كانت عملاً يلامس أعماق المتلقي ويمزج بين الكلمة والإحساس والروح.
قصيدة مهدي منصور تنبض بنَفَسٍ ملحمي، تستدعي صورة الإنسان الممزق بين اليأس والرجاء، بين الأبواب الموصدة في وجهه وأفق السماء الذي ينتظر صلاة مثقلة بالجرح. اللغة المتوهجة تستمد قوتها من الصور القرآنية والرموز الدينية: المئذنة، الملائكة، الأذان، النقوش على الأعمدة، فيتحول النص إلى ما يشبه مناجاة متعبة أمام باب مفتوح على الأبدية. الجسد في القصيدة ليس سوى قافلة مثقلة بالحنين، والجرح فيها يتحول إلى إيقاع داخلي يفرض نبرته على كل بيت من الأبيات.
أداء أحمد حويلي منح النص بعداً جديداً؛ صوته القوي المشبع بالتقاليد الإنشادية رفع القصيدة لتصبح أقرب إلى الابتهال، بينما جاءت موسيقى زياد سحاب لتفتح فضاءً حداثياً مغايراً، حيث امتزجت الأوتار الشرقية بالتجريب الحسي. هذا التزاوج أخرج القصيدة من إطار التلقي المكتوب إلى مساحة معيشة، حيث يتنفس الشعر عبر لحن متوتر يوازن بين الحزن والرجاء.
لم تكن الأمسية مجرد عرض شعري أو حفل موسيقي، بل تجربة جمالية شاملة جمعت الكلمة بالمقام والذاكرة بالجرح، وأكدت أنّ الشعر حين يُغنّى ويعزف، يتحول إلى طقس إنساني يلامس الروح مباشرة. النص بصياغاته العاطفية، والأداء الصوتي بما فيه من حنين وقوة، والموسيقى الخارجة عن القوالب التقليدية، تلاقوا جميعاً ليقدموا عملاً يختصر مأساة واغتراب عصر كامل ضمن لحظة شعورية واحدة.
مثل هذه التجارب تكشف أن الشعر العربي لا يزال قادراً على التجدد، وأنه حين يتحالف مع الصوت والموسيقى، يصبح أكثر قرباً من الناس وأكثر قدرة على الدخول إلى وجدانهم من أي نص مكتوب على ورق. في بيروت تلك الليلة، انفتح الشعر على الموسيقى، وانفتحت الموسيقى على الروح، ليولد عرض يختصر معنى أن يتحول الألم إلى صلاة موسيقية.


